mardi 6 mars 2018

الموجز في الإهانة كتاب برنار نويل،ترجمة محمد بنيس


2016. "الموجز في الإهانة"
كتاب برنار نويل، قام محمد بنيس بترجمته إلى العربية

هذه مقدمة الكتاب بقلم المؤلف :

مُقـدّمــة
بدأ كلُّ شيء بكلمة ـ بابتكار كلمة الرقابة على المعنى SENSURE التي كانت على الفور، بمحض الصدفة، ذاتَ دلالة بالفرنسية وكانت، بمظهر كتابتها الخاطئة مقارنة بكلمة الرقابة، التقليدية، تثيرُ الانتباه. كانت هذه الرقابة CENSURE، تعني على الدوام، الحرمانَ من الكلام، وباتساع المعنى جميعَ القيود المفرُوضة على حريَّة التعبير فيما هو من البديهي أن الرقابةُ على المعنى التي ابتكرتُها كانت تدين الحرمانَ من المعنى. كنا آنذاك في 1975 والعالم، في تلك الفترة، كان يبدو منقسماً إلى قسمين : من جهة الغربُ التي كانت تنتصرُ فيه الحرية، وبالخصوص حرية التعبير؛ ومن الجهة الأخرى، بلدانُ الشرق والاتحاد السوفياتي الذي كانت تسود فيه الرقابة.
كانت ظروفُ المحاكمة ضد "الإخلال بالأخلاق العامة" التي كانت اتُّهمتْ بها روايتي، "قصر العشاء الأخير" Le Château de Cène، قادتني إلى التفكير في هذه الوضعية. وبسُرعة، فطنتُ إلى أن الأشياء لم تكن بمثل هذه البساطة، وأن الغرب كان اخترعَ وسائلَ ليُبطل بطريقة سرية مفعولَ الحرية الممنُوحة لمواطنيه، وأبسطُ وسيلة لذلك هو خلطُ الأخبار والإكثار منها ليجعلها تفقدُ دلالتَها. هذا الفنُّ من الحرمان من المعنى عن طريق الإكثار منَ ترديد الأخبار كان يُؤْذن بنظام وضعَه في الوقت الحاضر مجتمعُ الاستهلاك، الذي يُوهم بالاستجابة لكلِّ رغباتنا، لا منْ أجل إشباعها بل دائماً من أجل إثارتها أكثر فأكثر. هكذا، فإنَّ الاستهلاكَ لم يكن يقصد إشباعَ الرغبة، بل كان يهدفُ فقط إلى الإنْتعَاش الدائم للشهيَّة.
فرضت كلمة الرقابة على المعنى نفسَها عليَّ دفعةً واحدة، لأنه كان يكْفي أن أضعَ حرف S مكان حرف الابتداء C لتنتقل بوضوح من "الحرمان من الكلام" إلى "الحرمان من المعنى". هذه الكلمة التي تم ابتكارها إذنْ في 1975، كانت تشير إلى بعض النصوص السياسية التي كتبتُها خلال السنوات اللاحقة، ثم عملتْ على انبثاق المفهوم الذي يعني الآن تأثيرَه الأساس، مفهوم "الخصَاء الذهني". إن الجمْع بين هاتين الكلمتين له عنفٌ كبير فيما هُما يدينان فعلاً يمارس أثره بلُطف، بل ويتقصَّد أن يظل من الصَّعب الانتباهُ إليه. ذلك أن التشويشَ على الأخبار والقيَم، الذي ميَّز الرقابة على المعنى في السنوات 60 / 70، تم تعويضُه على المستوى العام بنظام إعلامي قادر على احْتلال الفضَاء الذهنيِّ للبشر حتى يجعلَ أدمغتَهم جاهزةً لاستقبال رسائلَ سياسية أو دعائية.
مصطلحُ "الدماغ الجاهز" تم ابتداعُه من طرف مدير القناة التلفزيونية الأولى الفرنسية، الأكثر شعبية في بداية 2000. من السَّهل أن ندركَ في هذه "الجاهزية" مفعول "الخصاء الذهني" الذي، يُزيل بالفعل القدراتِ النقديةَ، وبالتالي التأملَ، لصالح الخضوع للرسائل التلفزيونية. فبقدر ما يستسلمُ المشاهدُ بسهُولة لهذه الرسائل لا يعودُ شيْءٌ ينبِّه وعْيَه بسبب أن تدفُّقَ الصور، التي تقتحم عينيْه، تقتحم أيضاً ذهنيتَه وتحتلُّها بتمامها. لا شيْءَ يقلِّل عندها من سُرعة هذا الاحتلال، الذي لا يتوقَّف عن النموِّ بتعدُّد الشاشات، اللوحات والسّْمرتْفُـون، التي هي بطبيعة الحال في خدمة السُّلطات الاقتصاديّة والسياسيّة.
لم تتوقف عبارةُ الرقابة على المعنى عن انشغالي بها منذ أن جعل ابتكارُ هذه الكلمة حاضراً أمامي دورُها وأهميتُها البالغة في غربٍ يُعير اهتماماً أقلَّ لحقوق الإنسان ـ التي يدَّعي تجسيدَها ـ من غضِّ الطرف عنها. وهذا من جهة أخرى لا يتوقفُ عن التفاقم منذ ثلاثين سنة لحدِّ أن هذا التطورَ يكاد يُحيل مَواتاً حقوقَ الإنسان وهذه الحرية اللتيْن هما أساسُ الديمقراطية. كتبتُ "الخصاء الذهني"، في برلين، سنة 1991، وقد استولى فجأة عليَّ التباينُ بين التحرير الذي كثيراً ما تمَّ تمجيدُه آنذاك والقهرِ الناتج عن الاحتقار. كنت وصلتُ إلى برلين وفي رأسي هذه الكلمات لسان جُوست " السعادةُ فكرةٌ جديدةٌ في أروبا". واكتشفتُ في برلين سقوطاً في خيبة بائسة مع وصُول الرأسمالية المنتصرة.
المقالُ القصير المكتوبُ طيلة هذه الإقامة لا يتكلم عن هذا لكنه يسجِّل أن الثقافة هي فكرُ الجسَد الاجتماعي، وأنَّ السلطة الحالية فهمتْ أن التعرُّض لحرية التعبير ليس كافياً وأن عليها أنْ تستحوذَ على حرية التفكير. كان الدِّينُ لفترة طويلة وسيلةً لتوجيه واجتذابِ هذه الحرية، لكنه لم يعُدْ بمقدوره أن يفعل ذلك في عالم لم يعُدْ توجد فيه غيرُ القيم الاقتصادية. من هنا جاء الاختراعُ والتطويرُ الفائقُ السرعة لوسيلة تحكُّم سريٍّ، لا لونَ له، بارع، يمكن أن يقبل به الجميع، ويهْتمُّ فقط، حسبَ ما يقال، بالتَّرفيه والتَّرويح عن النفس، والإخْبار بل والتثقيف.
ملاحظةُ وتحليلُ هذه الوسائل، التى تستعمل شَاشاتٍ تمت الإشارةُ إليها أعلاه، تقدِّم الحجة بسرعة على أن كلمة "الخصَاء" هي هُنا عنفٌ لا مبالغةَ فيه. فالحرمانُ من المعنى لا يكفي السلطةَ الاقتصادية لأنها، ككلِّ السلطات، تريدُ وحدَها السيادة. إذنْ هي تحتاجُ، لا فقط إلى أن تجعلَ الدماغ جاهزاً، بل تريدُ الاستيلاءَ على مجموع المسَالك الداخلية التي تسمحُ، في الجسْم البشري، بالتفكير وبكلِّ ما ينتج عنه من تأمُّل وتمثُّل. هكذا تشتغل لتضعَ رهن الإشارة مراقبةً شاملة للإنساني التي حلَم بها جميعُ الملوك، والبَاباوات والدكتاتوريين ولكنه لم يكُنْ ممكناً، حتى يومنا هذا. وليس من شيء نحتاج إليه سوى الوقت كي نفطنَ إلى أنَّ القسط الأعزَّ فينا، قسط الذهْنيِّ الذي عادة ما نُسميه "النفْس"، هو في الوقت نفسه الأكثر هشاشةً إنْ نحن لمْ نسْهَر بدون توقف على الاستئْناس به حتى لا يستسلمَ لغوايات الصُّورة.
المقالات المجموعة في هذا الكتاب لها جميعُها همُّ تحليل وإدانة غسْل الدماغ الذي تُعمِّمه وسائلُ الاتصال بالغواية لا بالخشُونة. عهدُ الاقتصاد يحوِّل كلَّ شيء، حتى الثقافة، إلى سلعة، وكل واحد منَّا، نحن الذين ينظر إليه كمُستهْلك، له ميلٌ إلى أن يبتلع بسرعة ما يقدَّم إلى عينيْه، بل إلى أن يطلبَه من جديد. مكانٌ مخصَّصٌ هنا للشعب الفلسطيني، المحْروم من حقوقه منذ سبعين سنةً بالرغم منْ جميع القرارات الدولية، لكنَّه مثالٌ كاملٌ للإنْكار العام الذي يسمحُ لعهدٍ عالميِّ للإعلام وللرقابة على المعنى أنْ ينمُو ويتطور.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire