mardi 6 mars 2018

جائزة أفضل الكتب إخراجاً تتوج كتاب "أندلس الشعراء" لمحمد بنيـس


جائزة أفضل الكتب إخراجاً
تتوج كتاب "أندلس الشعراء" لمحمد بنيـس

توّج المعرض الدولي للكتاب في بيروت يوم الجمعة فاتح دجنبر 2017، الكتاب الجديد "أندلس الشعراء" للشاعر محمد بنيس بجائزة الرتبة الثانية لأفضل كتاب إخراجاً.
صدر كتاب "أندلس الشعراء"، منتخبات أندلسية من الشعر والنثر، عن المركز الثقافي للكتاب (الدار البيضاءـ بيروت) في طبعة فنية راقية، مزينة بصور من قصر الحمراء في غرناطة وصورة فريدة من كتابة الخميادو، التي استحدثها الموريسكيون، مع تخطيط العنوان بخط أندلسي ـ مغربي. وضع التصور الفني للكتاب سمير السالمي، وخطط العنوان علي الداهية وقام بالإشراف الفني فؤاد بلامين. الكتاب من 310 صفحة، مربع الشكل، حسب جمالية المخطوطات المغربية، من حجم كبير، أهداه الشاعر لأستاذه الكبير، الدكتور محمد بنشريفة، الذي يمثل "ذاكرة الأدب الأندلسي في زمننا"، ووضع له مقدمة مفصلة وموثقة. وهو مقسم إلى ستة أبواب، تحمل أسماء نوبات من الآلة الأندلسية هي : الاستهلال، الماية، غريبة الحسين، عراق العجم، رصد الذيل، العشاق.
ومما جاء في التقديم : "تجمع هذه المنتخبات بين رؤية شعراء ورؤية كتّاب للأندلس. شعراء مسلمون، من بينهم أربع شاعرات، وإلى جانبهم شاعران يهوديان، بالإضافة إلى كتّاب، هم الذين انتقيت بعضاً من نصوصهم. يعتمد الاختيار تداخلات وتقاطعات بين نصوص شعرية ونثرية، من أزمنة مختلفة، كتبت أندلساً لا تزال تحتاج إلى الكشف، وقد أدمجت فيها نموذجاً شعرياً، يتبع طريقة بصرية هي التخـتيم، تكتبها العين من أجل أن تبنيَ مسرحاً ذهنياً للقراءة، ووضعتُ للكتاب تبويباً مستوحى من سهرة أندلسية متخيلة.
ويأتي اعتمادي هذا الإخراج لأقسام المنتخبات من أن أندلس الشعراء هي، بالأساس، أندلس الموسيقى والغناء، مثلما هي أندلس الزخارف والنقوش. اختيار شخصي، يضيء الطرق المتعرجة نحو ما لا نبلغه من أندلس الشعراء إلا بغبطة العاشق الذي جرّب العطش، فلم يزده الشرب إلا عطشاً، سفراً لا يتوقف عن السفر."

شطحات لمنتصف النهار محمد بنيس


محمد بنيس
كتاب  شطحات لمنتصف النهار


 2018 

صدر عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء كتاب" شطحات لمنتصف النهار"، في طبعة ثانية، مصححة، وقد كانت طبعته الأولى قد صدرت سنة 1996، في بيروت. هذا الكتاب له وضعية استثنائية في أعمال الشاعر محمد بنيس. فهو عبارة عن شذرات من سيرة ذاتية، مكتوبة بطريقة تجمع بين أسلوب الوصف وكثافة الشعر. كتابة جسد حيوي، تبحث عن جمالية مضادة، لا تستلم للغة الاعترافات السهلة أو لغة السرد المباشر، المطول. ستة وأربعون نصاً يستعرض محمد بنيس من خلالها لحظات من حياته الشخصية، اليومية، الثقافية، منذ سنوات الطفولة حتى بداية التسعينيات، وقد انتقل من فاس إلى المحمدية، ومن التدريس في المحمدية إلى كلية الآداب في الرباط، ومن الكتابة الشخصية إلى الحياة الشعرية والثقافية في السبعينيات والثمانينيات كما عاشها، في أوضاعها وصراعاتها. كتابة تستعيد الماضي لتتأمله بوعي يختار لغة المقاومة.

من نص "رؤية نفسي"
"أرضُ‭ ‬الكتابة‭ ‬أرْضي‭. ‬ولي‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬وطنٌ‭ ‬وأصدقاء‭. ‬قديماً،‭ ‬كنت‭ ‬أنصتُ‭ ‬إلى‭ ‬نداء‭ ‬أرض‭ ‬الكتابة‭. ‬كنتُ‭ ‬أتوقعُ‭ ‬أرضها‭ ‬حرة،‭ ‬رحيمة‭. ‬من‭ ‬أجْلها‭ ‬غالبتُ‭ ‬وواجهْت،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يسرق‭ ‬مني‭ ‬غاصبٌ‭ ‬حقي في هذه‭ ‬الأرض‭ ‬المشتركة،‭ ‬حيث‭ ‬أفترضُ‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شاعر‭ ‬يُصاحب‭ ‬فيها‭ ‬إخْوانه‭. ‬ويعيشون‭ ‬أخوّةَ‭ ‬المغامرة‭. ‬قديماً،‭ ‬تعهَّدت‭ ‬أن‭ ‬أعْطي‭ ‬جسدي‭ ‬لهذه‭ ‬الأرض،‭ ‬أن‭ ‬أقيم‭ ‬فيها،‭ ‬و‭ ‬أسافرَ‭ ‬فيها،‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬الصداقات‭. ‬ثم‭ ‬الأرضُ‭ ‬الحرة‭ ‬انكشفتْ‭ ‬لي،‭ ‬في‭ ‬السهَر‭ ‬البدْئيِّ‭ ‬مع‭ ‬أساتذة‭ ‬كنتُ‭ ‬أسمعُهم‭ ‬ينادُون‭ ‬عليّ‭. ‬عندها‭ ‬قلتُ‭ ‬لنفسي‭ : ‬إني‭ ‬أراكِ‭ ‬تائهة،‭ ‬حرة،‭ ‬تعبُرين‭ ‬هذه‭ ‬الأرضَ،‭ ‬وأراك‭ ‬تختارين‭ ‬ساعة‭ ‬العبور‭ ‬والصداقات‭. ‬أنتِ،‭ ‬أيتها‭ ‬النفْسُ،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬قريبةٌ‭ ‬من‭ ‬السابقين‭ ‬واللاحقين،‭ ‬المقيمين‭ ‬والعابرين‭. ‬قُرِّي‭ ‬عيناً،‭ ‬أيتها‭ ‬النفس، يا نفسي،‭ ‬بهذه‭ ‬الأرض،‭ ‬تابعي‭ ‬الطريق،‭ ‬طريقَك‭ ‬أنتِ،‭ ‬واعْلمِي‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬ينتَهي‭ ‬إلا‭ ‬ليبْدأ‭. ‬"

الأعمال النثرية لمحمد بنيس في خمسة أجزاء

 2017

صدرت  عن دار توبقال للنشر ، الأعمال النثرية لمحمد بنيس في خمسة أجزاء ، جاءت عناوينها كالتالي : الجزء الأول : في الكتابة و الحداثة ، الجزء الثاني: الشعر في زمن اللاشعر ،الجزء الثالث: تقاسم الأيام ، الجزء الرابع: لغة المقاومات ، الجزء الخامس : سيادة الهامش  
خص بنيس هذا الإصدار المميز بمقدمة عنونها بٍ 


النّثـرُ ومسَافاتُ الضَّوْء

1.
تدلُّ الممارسة النصية على مسافات الضوء في الشعر والنثر، كلُّ واحد منهما يمتلك مغامرتَه الخاصة. في الطريق يلتقيَان، يتوازيَان أو يتقاطعَان. ذلك ما أستخلصُه من أعمال نثرية بدأتُ كتابتَها في مرحلة لاحقة على صدور أعمالي الشعرية الأولى. ويمكن اعتبار "بيان الكتابة" أول نص له مسافةُ الضوء. كتبتُ هذا النص ـ البيان في لحظة كانت قصيدتي تغامر بالبحث عن بناء مختلف. كانت تحتاجُ إلى نص من خارجها، يقترب منها ويبتعد عنها. لم يكن ضوؤُها وحده كافياً لتستأنف الطريق. والنص ـ البيان ضوءٌ ينبثق على حدودها، من خارجها وداخلها في آن. معه بدتْ تفاعلاتُ القصيدة مع الذات واللغة والمجتمع، بما سيصبح في اللاحق رؤية تتجاوب فيها الوضعية المركّبة للكتابة والحداثة.
بهذا المعنى يكون الشعرُ بحاجة إلى النثر، والنثرُ بحاجة إلى الشعر. ثم الكتابةُ تخترق الحدود، تفتحُها على العبور المُتبادَل بينهما. ليس معنى ذلك أن الشعر والنثر متماهيان. إذ بينهما كثافةُ الذات الكاتبة، التي لا يمكن اختزالها في القصيدة. لكن كل واحد منهما يُلقي بضوئه الخاص في طريق الآخر. لا يتـمُّ تبادلُ الضوء بطريقة آلية، فنعتقدُ أن الانتهاءَ من كتابة قصيدة ينتظر النثرَ ليضيءَ جسدها، أو أن نصاً نثرياً يعني بداهةً أنه يقفُ على باب القصيدة، يتوسّل ضوْءَها. لا شيء من رؤية ميكانيكية كهذه.
في البدء كانت القصيدة، وهي تبقى وفيةً للبداية، التي تتجدد على الدّوام. تأتي وتذهب على الطرقات الألف للمُغامرة والتجربة. ثم النثر يفاجئُ القصيدة بما ينقلها إلى فضاء التأمل النظري والفكري، يعرضُ أوضاعَ اللغة، الزمن، الموروث، التداخلات الثقافية والشعرية، البناء، الذات، المصير، يتشبّثُ بالسؤال كحقيقة ملازمة للشعر. وبهذا يملك النثرُ بعضاً من الضوء الذي ليس من طبيعة ضوء الشعر.
2.
بعد "بيان الكتابة" تعدّدت الممارسة النثرية. منها ما كان استجابةً لسؤال القصيدة، ومنها ما كان إنصاتاً لنداء الذات والمجتمع، ومنها ما كان تفاعلاً مع طلب هذه الجهة أو تلك من الجهات، التي كانت تسعى إلى اللقاء والحوار. ممارسةٌ تأخذ حيناً شكل نص، وشكل دراسة مفتوحة حيناً آخر على الشعر في الزمن، بما يحمله من علامات الشدَّة والقحْط. ومهما طالت المدة بين نصوص ودراسات، فإني كنتُ حريصاً على تتبّع فكرة الكتابة نفسها، أعودُ إليها كيْ أستكشفَ جهة لا تزالُ محجوبة فيها. سلوكٌ من طبيعة الكتابة ذاتها، حيث هي في كلِّ مرة تسعى إلى التذكير بالمُستحيل الذي يرافق الكتابة ويجذّر التأمل والتفكير فيها.
والأعمال النثرية مذكرات، يثْبتُ في ثناياها تاريخُ كتابتها. تتخلى هذه النصوص والدراسات عن التقاليد المعهودة في كتابة المذكرات، لأن ما تتناوله لا يحكي عن وقائع يحتاج إثباتُها إلى وثائق عيْنيّة. هي رصدُ مشاهَدة أو سمْع أو قراءَة؛ أيْ ما يحدث علناً هناك وهنا من أنحاء المدينة، في زمن يتنكّر لقيم الحرية والعدالة. مدينة لها اسمُها، وربما كانت تشمل المدنَ جميعاً، بدون تمييز في زمن العولمة. مذكراتٌ كتبتُها في فترات كان العالم العربي ينتقل من زمن ترتفع فيه أصوات المطالبين بالديمقراطية إلى زمن الإسلاميين الذين يحاكمون الحداثة بمفاهيم التكفير ويعملون على فرض الجهل بالعُنف. وفيها كانت الرجّة تعلن عن جذور المتعاليات المغمورة بالتراب والحجر، عن نيران طبقاتها السفلى.
أكثرُ من ذلك. تجرأت الكتابةُ على اقتحام خطاب الشطحات، في صيغة سيرة ذاتية. هنا يمتزج خطُّ الحكاية بخطِّ اللاحكاية، يستقبلُ النثر الشعْر، يسمحُ الامتداد التاريخي للزمن بالانقطاعات والارتدادات، إلى حد أن الماضي والحاضر والمستقبل تتبادل المواقعَ كما تتبادلها ضمائرُ الأنا والأنت والهُو. وفي كل مرة تظهر الكتابة وكأنها متوحّدةٌ بخطاب الأنا ومنفصلةٌ عنه في آن. شطحاتٌ تكاد طريقة كتابتها تبْني سياجاً حولها، حمايةً لها من عدْوى الالتباس بسواها.
3.
بهذه التفرُّعات المتنامية، اكتسبت الأعمالُ النثرية وضعيتَها المستقلة في لغتهَا وفي عوالمها. تعني الوضعية المستقلة أنّ الأعمال النثرية حرصتْ على استكشاف فضائها الخاص. فهي ركّزت على قضايا الحداثة في العالم العربي، وأوضاع القصيدة، وحالات الشعر العربي الحديث. رافقت ذلك كله بتأمّل نظريٍّ وتعاطف مع الأسئلة. ثم إنها سعتْ إلى تتبع الحداثة في العالم العربي، من ركن يلتقي فيه رصدُ الحالات بنقدها. الحداثة التي تتناولها متعددةُ الرؤوس، وهي كانتْ تبرز أكثر فأكثر في الوقائع الشعرية والثقافية، أو الصيرورات الاجتماعية، أو القيم الأخلاقية، بالتلازم مع الإبدالات التي شهدها العالم العربي، مغرباً ومشرقاً على السواء.
من بين أهمّ القضايا التي انشغلتْ والتصقتْ بها نقدُ تبعية الثقافي للسياسي، وتفكيكُ العلاقة بين المشرق والمغرب، والتنبيهُ على احتضار اللغة العربية، ومواجهةُ المآل المعتم لمبدإ الديمقراطية ولقيم الحرية والمساواة والصداقة. وربما كانت "الحداثة المعطوبة" الكلمةَ الجامعة التي لازمتْها نصوص نثرية، اخترقت حدودَها كلما استدعت الضرورة. ملازمة الحداثة المعطوبة كانت صبُورة لأنها كانت باستمرار توليداً وحفراً في طبقات المقاومة التي كانت شبه محجُوبة عن الأنظار، ثم أصبحت وحيدةً ومعزولةً في زمن الجهل الذي يتباهَى به الإسلاميون.
على أن النثر في هذه النصوص يتجاوبُ مع الشعر قبل أن يكون انعكاساً لخطاب اجتماعي أو فلسفي، يلتزم بتصوُّرات ومفاهيم يصدر عنها وفق منهجية قبْلية. كل هذا يستدعي أن أقول إن الأعمال النثرية لم يكن لها معنًى خارج مغامرتها الخاصة في الكتابة، ولا تتحقق لها قيمةٌ إلا بفضل ما تقدمه لها القصيدةُ وما تستقل به عنها. بل أقول إن ما كتبتُه من أعمال نثرية إضافةٌ لتجربة الكتابة الشعرية بقدر ما هي حوارٌ، مع كتابات عربية وغير عربية، له لغة المقاومة.
4.
لا شك أن "المقاومة" فكرةٌ قبل أن تكون مجردَ تجربة. لها في هذه الأعمال مكانتُها، من حيث أننا نتعرف على طاقتها الشعْشعانيّة في فترات صعبة من اختبار معنى الحرية. كانت المقاومة، على امتداد سنوات كتابة الأعمال النثرية، تتجذّر بالكتابة وفي الكتابة. لم يكن بدٌّ من المقاومة في مسالك الثقافة والمجتمع، أو في عواصف الجسد وانعطافة العلاقات الإنسانية في الحياة الثقافية. ومن نص إلى نص كانت المقاومةُ تتسع، تمتدُّ، ترتفعُ، تنتشر. لم تكن حريةُ الشاعر معطاة في العالم العربي، قديماً أو حديثاً. وفي كل لحظة من اللحظات كانت ممارسة الكتابة ممارسةً في الآن ذاته للمقاومة.
هكذا يمكن وصفُ هذه الأعمال النثرية بأنها تجربةُ كتابةٍ تخترق زمناً عربياً، بشروخه ومهاويه. وتصبح التجربة أوضحَ كلما وقفت الكتابة على حافة الخطر. ذلك مصيرُها الذي لا تنْدمُ على مواجهته بعينيْن يقظتيْن. أزيدُ من ثلاثين سنة كانت فيها الكتابة تتعلم المقاومة، وفيها كانت تكتسب سمتَها. نصوص تتجاوب، عبر التفرّعات المتنامية التي يفصل الزمن أحياناً بين بعضها والبعض الآخر.
5.
في جميع هذه النصوص يتفقّد النثر ضوءَ الشعر كما لو كان ضوءَه الخاص. لا لأن النثر لا يوجد إلا بالشعر، بل لأنه يحتاج إلى ضوء الشعر كما لوْ كان يحتاجُ إلى صاحب يرافقه في طريق المغامرة، إلى أخ أو إلى أحد أفراد العائلة. ربما يكون ضوءُ الشعر لعبة يلهو بها النثر. لكنه لا يتخلّى عنها.
وضوءُ الشعر، من جهته، يسيرُ إلى جنب ضوء النثر حتى لا حاجزَ بينهما في الكتابة، سوى درجة كثافة الشعر التي يحتفظ بها ويحافظ عليها. فالشعرُ يعرف أن كثافة ضوئه تتضح في خارجه، في ضوء النثر الذي بدوره يلهُو بلعبة الشعر. لعبة تختلف بين الشعر والنثر، لأن عناصرها وقواعدها مختلفة، من البسيط إلى المركّب. ومن خلالها تنشأ عوالمُ متباينة في الإيقاع، في الصورة، في التركيب، في الفضاء البصري، بالنسبة للشعر؛ وفي بناء الفقرة، في الحكاية، في التصوير، في الاستشهاد، في المفهوم، في التحليل، في البرهان، في الخلاصات، بالنسبة للنثر.
6.
ذلك هو المعنى الذي يمكنني أن أعطيه لهذه الأعمال النثرية، وتلك هي قيمتُها. انطلقت كتابة نصوصها منذ 1981، وفي كل عمل كانت مغامرة الكتابة تكاد تستقل بذاتها. مع ذلك لم أكتبْ نصوصَ كل عمل من الأعمال في تسلسل زمني، له البداية والنهاية. كانت كتابة النصوص تتوزع عبر فترات تطول وتقصر، وغالباً ما لم تكن وحدة العمل مهيمنةً في عملية الكتابة أو في عملية جمع النصوص وإعطائها عنواناً يمنحها شكل كتاب.
هذا ما أقصد عندما أشير إلى أن الأعمال النثرية هي مجموعة نصوص مستقلّة بذاتها، كتبتُها منذ الثمانينيات حتى اليوم. كنتُ أستقبل بعضها بنشوة وبعضها كان ملازماً لحياتي الشعرية والثقافية ومتفاعلاً مع مبادئ ومواقف لا أتنازل عنها. وكنتُ في كتابتها أقتفي خطوات شعراء حديثين في كل من العالم الغربي والعربي. فإذا كان كلٌّ من أبي العلاء المعري ولسان الدين بن الخطيب من أكبر الشعراء العرب القدماء، الذين ألّفوا أعمالاً في الشعر والنثر، فإن كتابة الأعمال النثرية من طرف الشعراء انطلقت بوضوح في الغرب الحديث مع الشاعر دانتي، وأصبحت لاحقاً من خصائص الشعراء وطقوس الكتابة لديهم.
7.
وكان لا بد لي، وأنا أقدم على جمع هذه الأعمال النثرية وتهيئتها للنشر، أن أضيف نصوصاً لم يسبق لي نشرُها في عمل من الأعمال. وحرصتُ، في الوقت نفسه، على أن أمارس ما تتطلبه الكتابة من إعادة الكتابة، بمعناها الشامل. فأنا أعتقد أن جمع الأعمال لحظاتٌ يؤدي بعضُها إلى بعض، ويتجاوب بعضُها مع بعض. ونظراً لأني كنت استفدتُ من نصوص في كتابة أعمال أخرى، أو كتبتُ نصوصاً في ظروف عابرة ولم تعد تجد لها مكاناً في كتاباتي، فقد عملتُ على حذف نصوص وإعادة ترتيب أخرى، أو نقلتُها من كتاب إلى آخر، حسب ما يقتضيه بناءُ الأعمال النثرية في كليتها. كما أنني راجعتُ صياغات، بدّلتُ وصوّبت، اهتداءً بمنطق الكتابة واحتراماً لحدودها.  




محمد بنيس لأعمال الشعرية

سجل محمد بنيس في مقدمة الأعمال الشعرية
( الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت وعمان، بالتعاون مع "دار توبقال" في الدار البيضاء، في جزئين ، طبعة أولى سنة 2002 )

"... تعلمت منذ البدء أن السفر إلى القصيدة يتطلب الصبر، وأن الفعل الشعري هو فعل كتابة يفرض اعتماد سلوك التخلي عما يشوش على القصيدة. نسكية علمتها لي القصيدة. وبالضبط تلك التي كانت تمثل تجربة شعرية، لها قيم الحرية والجمال في آن. قدماء وحديثون يجتمعون في مكتبتي وذاكرتي. عرب وأروبيون. بذلك ارتبط فعل الكتابة الشعرية بمعرفة الكيفية التي لي بها أن أكتب قصيدة أسمي بها زمني. لم تكن القصيدة منفصلة لدي عن الزمن. وذلك كان يفضي إلي السؤال بلا مواربة عن معني الزمن وعن معني الشعر في أفق الحداثة. وهنا لربما يكمن السبب الذي جعلني علي الدوام شديد الحرص علي قراءة الأعمال النظرية والنقدية التي تضيء لي القصيدة الحديثة أو الشعر. أعمال فكرية، جمالية، تاريخية، علمية. وفي الفيزياء كان ثمة إغراء يتبلور، شيئا فشيئا، في مراقبتي لما يحدث في الكلمات وبين الكلمات. تلك القصيدة الأولي، الرومانسية، التي كنت عثرت علي ألفتها، لم تصاحبني إلا فترة قصيرة، عندما أحسست بأن قصيدة بدر شاكر السياب (ومعها القصيدة العربية المعاصرة) هي الأقرب إلي نفسي. ما زلت أتذكر العلاقة التي كانت نشأت لي مع بدر شاكر السياب، وأنا أقــرأ ثم أقرأ شعراً يؤالف بين الغنــاء والاستكـشاف والعذاب. دهشة القصيدة. ومنها أخذت أطل علي أرض هي الشعرالعربي المعــاصر. دواوين تتجمع في مكتبتي الصغــيرة وأنا أطـــوف بمكتبات المدينة القديمة، بين زنيقت الصوافين و الـطالعة الصغيرة . مجلات، منها الآداب . أسماء الشعراء المعاصـــرين تتضح. عبد الوهــــاب البياتي، يوسف الخال، صـلاح عبد الصبور، خليل حاوي، بلند الحـــيدري. واسم الحيرة الشعرية أدونيـــس، الذي كان آخر من تعرفت عليهم من هؤلاء الشعراء.
سنوات كنت فيها أنصت، أيضا، للقصيدة الأوروبية الحديثة، من بودلير إلي ملارمي، ومن هلدرلين إلي ريلكه، ومن ييتس وويتمان إلي إليوت وإزرا باوند، ومن لوركا إلي ماتشادو وبابلو نيرودا. أعمال أخري كانت بدورها حاضرة من ثقافات وحضارت. أذكر هنا الكوميديا الإلهية لدانتي التي كانت تتركني (في ترجمتها العربية) منبهراً لأيام. سلالة شعرية تتقاطع مع سلالتي العربية، من امرئ القيس إلي المتنبي، أو من طرفة بن العبد إلي ابن خفاجة، ومن جميل بثينة إلي الحلاج وأبي حيان التوحيدي. دواوين وكتابات عربية تتقاطع وتتناجى مع تجارب شعرية. كتابية. كونية. بها أتعرف على الزمن الشعري الذي هو ما يعنيني في الكتابة."

حياة في القصيدة
مقدمة الأعمال الشعرية

هذا الأزرق شعر محمد بنيس

هذا الأزرق
 شعر 
محمد بنيس 

"هذا الأزرق" هو الديوان الخامس عشر للشاعر محمد بنيس، صدر في بداية سنة 2015 عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء،  ضمن سلسلة تجارب شعرية. الديوان من 296 صفحة من الحجم الكبير، ويتوزع عبر معمارية مؤلفة من أربع مراحل هي : " نحو الأزرق"، "من جهة المتوسط"، "مسرح الأزرق"، و"داخل الخارج". يواصل محمد بنيس رحلة استكشافاته الشعرية في ديوانه الجديد، الذي جعل من اللون الأزرق مجال الكتابة، بعد أن كان تناول هذا اللون في مراحل سابقة من دواوينه، حيث كان الأزرق مصاحباً للقصيدة ولعوالمها المتبدلة.
ويغامر الشاعر في هذا الديوان الجديد، بالكتابة في عالم مجهول، ينتقل فيه بين أمكنة وبين أشياء نألفها ولا نألفها. فهو يرحل من اللغة ومن تاريخ معاني الكلمة إلى الفنون التشكيلية، ثم من مدن متوسطية تمجد الأزرق وتوجد بفضل الأزرق، في الضفتين الجنوبية (المغرب) والشمالية (إيطاليا) معاً، كما هو الحال بالنسبة لمدينتي شفشاون وطنجة، ومنهما ينتقل إلى الصناعة اليدوية مثل الزليج والفخار في مدينة فاس، أو عوالم ثقافية، تجسد مسرح الأزرق، في نصوص هي عبارة عن هوامش على اعترافات القديس أوغسطين، أو تجربة الميلاد الثاني، التي عاشها الشاعر.
ديوان يبني عوالم متعددة، يظهر فيها الأزرق عبر وجوهه اللانهائية، وعبر تفاصيل حياتنا اليومية على نحو عادة ما لا ننتبه إليه. واستكشاف الأزرق في هذا الديوان يعطي الشعر وظيفة إعادة كتابة الحياة (حياة الخارج وحياة الداخل)، فيما هو يقترب من الأزرق في ماديته ويمزج بينه وبين الحساسية والمعرفة والحضارة والتاريخ في رؤية شعرية أصبحت جماليتها من سمات الكتابة عند محمد بنيس.
ديوان "هذا الأزرق" نشيد بلغات متعددة، يستدعي قراءة مفتوحة للمادة والمكان في كتابة شعرية تتداخل فيها الأشكال والأنماط، تحث قارئها على سفر لا يتوقف، تعيد شحذ الحواس وتحرر الفكر من كسل المألوف والمعتاد. ديوان من أجل الرحيل نحو تخوم المجهول والمفاجئ، في زمن نكاد ننسى فيه معنى الشعر المعاصر عندما يكون نشيداً واستكشافاً وحرية.

يحرقون الحرية محمد بنيس



محمد بنيس
كتاب : يحرقون الحرية  2016


تقديم كتاب : يحرقون الحرية
.
الحريةُ، الكرامة

لم يُخطئ الشبّان عندما خرجوا، في البلاد العربية، ليُطالبوا بحقّهم الأول في "الحرية، الكرامة". ولم يكن خروجُهم صادراً عن نرجسية أو غوغائية. بل كانوا، في خروجهم، كتلةً من إشعاع يُضيء النّفوس. فحركةُ الاحتجاج والرفض، التي أطلقوها بعفوية في تونس، تحولتْ في فترة وجيزة إلى حالة عربية، ثم إلى حركة كوْنية. يستجيب فيها المشرقُ للمغرب، ويلتقي الغربُ من خلالها (لأول مرة في تاريخنا الحديث) بالشرق، كما يتفاعل في نسيجها الشمالُ مع الجنوب.

حقٌّ تتآلفُ فيه الحرية مع الكرامة. ذلك هو إبداع هذه الحركة التي ارتدَتْ لباس الثورة على الأنظمة والمؤسسات، جنباً إلى جنب في بعْض الحالات. حركة أعادتنا إلى البدئي، إلى الصوت الذي يطالب بما هو طبيعي في مجتمعات عربية غير طبيعية، لأن أنظمة الحكم فيها لا تعترف بحرية الإنسان، ولا بكرامة الإنسان، كما أن مؤسساتها امتدادٌ للأنظمة في احتقارها للمواطن وتصرُّفها الاستبدادي معه. 

لم تقدّم هذه الحركة تعريفاً للحرية، ولا رصداً لتاريخها في الحياة العربية القديمة، أو تتبعاً لآثار الدعوة إليها من طرف النخبة في عصرنا الحديث. لقد اكتفت برفع مطلب الحق في تقاسُم الحرية بين أبنائها.

أقصدُ 
حقَّ أن يتمتّع جميع الناس
بالحرية التي من مَعانيهَا الكرامة،
بالحرية التي تُشْرع أبوابَ الكرامة،
بالحرية التي تعلّم الكرامة،
بالحرية التي تصُون الكرامة وتُحافظُ عليها.

حق تقاسم الحرية عبّر عن نفسه في التضامن بين أبناء المجتمع، وفي إبداع الشعارات، وفي تأليف أعمال فنية شعبية. 

لكن هؤلاء الشبان أتوْا في زمن غير زمنهم. أو جاؤوا قبل زمنهم في الخيال والحلم معاً. قوة الاحتجاج والرفض لديهم كانت تسعى إلى تدمير سيادة قيَم الطغيان والاستبداد والعبودية. تدميرٌ أرادوا له أن يكون خلاّقاً، أي محرِّراً ومُبدعاً. لذلك ربطوا بين الاحتجاج والرفض وبين الحرية، الكرامة. فعْلان متلازمان، حيث التدمير يستقبلُ البناء، والعبودية الحرية، والطغيان الديمقراطية. 

وبدلاً من إرادة هؤلاء الشبان في أن تستكشف الشعوب مناطق مجهولة من الحرية، أو تستعيد قسطاً مما ضاعَ من حريتها التي كانت تعوّدت عليها، خرج إلى العلن دعاة ومحاربون يجْهَرون بإلزامية الامتثال إلى ماض مجرد، لا تاريخي، تستولي عليه شراسة الانغلاق وعبودية الجهل. هكذا ظهروا وهم يحرقون الحرية. وفي لمح البصر علتْ مشاهدُ النقيض والأنقاض، واحتلت مظاهر العنف الساحات العمومية باسم الدين. هذه الظاهرة الدينية، كما برزت في درجات قراءة الإسلاميين للدين، نصاً وتاريخاً، من الإسلام المتعصب، التكفيري، إلى الإسلام الوسَطيّ، المسالم والسلمي، تُجسّد قيَم العبودية التي تتعارض مع قيَم الحرية. 

علينا أن نرى هؤلاء الذين يحرقون الحرية وما يقومون به من خراب، في جميع جهاته وبكل أشكاله. بعيْن يقظة، متفحّصة، عارفة، ناقدة. نرى في الجهات كلها وبدون استثناء. ويمكن كذلك أن نرى بما سيجيءُ من قيَم لا تزال طاقاتُها كامنة في أعمال أدبية، وفي أعمال فنية وفكرية.

بهذه الرؤية المتفاعلة كنتُ متشبثاً بالكتابة، وأنا أتتبع وقائع الربيع العربي، ثم أسجّل يوميات عن الذين يحرقون الحرية، وينشرون النقيض والأنقاض باسم الإسلام، من خلالوقائع لا يمكن وصفها إلا بأحكام الجهل. تلك هي الكتابة التي تدلُّ على أنّ المقاومة الثقافية مقدمة لبناء قيَم المستقبل. نعم، كتابة المقاومة الثقافية معزولة. لكن، أليس لها أن تقبل بأن تكون معزولة حتى تستمر المقاومة وتبقى الرؤية مفتوحة ؟ 
محمد بنيس

الموجز في الإهانة كتاب برنار نويل،ترجمة محمد بنيس


2016. "الموجز في الإهانة"
كتاب برنار نويل، قام محمد بنيس بترجمته إلى العربية

هذه مقدمة الكتاب بقلم المؤلف :

مُقـدّمــة
بدأ كلُّ شيء بكلمة ـ بابتكار كلمة الرقابة على المعنى SENSURE التي كانت على الفور، بمحض الصدفة، ذاتَ دلالة بالفرنسية وكانت، بمظهر كتابتها الخاطئة مقارنة بكلمة الرقابة، التقليدية، تثيرُ الانتباه. كانت هذه الرقابة CENSURE، تعني على الدوام، الحرمانَ من الكلام، وباتساع المعنى جميعَ القيود المفرُوضة على حريَّة التعبير فيما هو من البديهي أن الرقابةُ على المعنى التي ابتكرتُها كانت تدين الحرمانَ من المعنى. كنا آنذاك في 1975 والعالم، في تلك الفترة، كان يبدو منقسماً إلى قسمين : من جهة الغربُ التي كانت تنتصرُ فيه الحرية، وبالخصوص حرية التعبير؛ ومن الجهة الأخرى، بلدانُ الشرق والاتحاد السوفياتي الذي كانت تسود فيه الرقابة.
كانت ظروفُ المحاكمة ضد "الإخلال بالأخلاق العامة" التي كانت اتُّهمتْ بها روايتي، "قصر العشاء الأخير" Le Château de Cène، قادتني إلى التفكير في هذه الوضعية. وبسُرعة، فطنتُ إلى أن الأشياء لم تكن بمثل هذه البساطة، وأن الغرب كان اخترعَ وسائلَ ليُبطل بطريقة سرية مفعولَ الحرية الممنُوحة لمواطنيه، وأبسطُ وسيلة لذلك هو خلطُ الأخبار والإكثار منها ليجعلها تفقدُ دلالتَها. هذا الفنُّ من الحرمان من المعنى عن طريق الإكثار منَ ترديد الأخبار كان يُؤْذن بنظام وضعَه في الوقت الحاضر مجتمعُ الاستهلاك، الذي يُوهم بالاستجابة لكلِّ رغباتنا، لا منْ أجل إشباعها بل دائماً من أجل إثارتها أكثر فأكثر. هكذا، فإنَّ الاستهلاكَ لم يكن يقصد إشباعَ الرغبة، بل كان يهدفُ فقط إلى الإنْتعَاش الدائم للشهيَّة.
فرضت كلمة الرقابة على المعنى نفسَها عليَّ دفعةً واحدة، لأنه كان يكْفي أن أضعَ حرف S مكان حرف الابتداء C لتنتقل بوضوح من "الحرمان من الكلام" إلى "الحرمان من المعنى". هذه الكلمة التي تم ابتكارها إذنْ في 1975، كانت تشير إلى بعض النصوص السياسية التي كتبتُها خلال السنوات اللاحقة، ثم عملتْ على انبثاق المفهوم الذي يعني الآن تأثيرَه الأساس، مفهوم "الخصَاء الذهني". إن الجمْع بين هاتين الكلمتين له عنفٌ كبير فيما هُما يدينان فعلاً يمارس أثره بلُطف، بل ويتقصَّد أن يظل من الصَّعب الانتباهُ إليه. ذلك أن التشويشَ على الأخبار والقيَم، الذي ميَّز الرقابة على المعنى في السنوات 60 / 70، تم تعويضُه على المستوى العام بنظام إعلامي قادر على احْتلال الفضَاء الذهنيِّ للبشر حتى يجعلَ أدمغتَهم جاهزةً لاستقبال رسائلَ سياسية أو دعائية.
مصطلحُ "الدماغ الجاهز" تم ابتداعُه من طرف مدير القناة التلفزيونية الأولى الفرنسية، الأكثر شعبية في بداية 2000. من السَّهل أن ندركَ في هذه "الجاهزية" مفعول "الخصاء الذهني" الذي، يُزيل بالفعل القدراتِ النقديةَ، وبالتالي التأملَ، لصالح الخضوع للرسائل التلفزيونية. فبقدر ما يستسلمُ المشاهدُ بسهُولة لهذه الرسائل لا يعودُ شيْءٌ ينبِّه وعْيَه بسبب أن تدفُّقَ الصور، التي تقتحم عينيْه، تقتحم أيضاً ذهنيتَه وتحتلُّها بتمامها. لا شيْءَ يقلِّل عندها من سُرعة هذا الاحتلال، الذي لا يتوقَّف عن النموِّ بتعدُّد الشاشات، اللوحات والسّْمرتْفُـون، التي هي بطبيعة الحال في خدمة السُّلطات الاقتصاديّة والسياسيّة.
لم تتوقف عبارةُ الرقابة على المعنى عن انشغالي بها منذ أن جعل ابتكارُ هذه الكلمة حاضراً أمامي دورُها وأهميتُها البالغة في غربٍ يُعير اهتماماً أقلَّ لحقوق الإنسان ـ التي يدَّعي تجسيدَها ـ من غضِّ الطرف عنها. وهذا من جهة أخرى لا يتوقفُ عن التفاقم منذ ثلاثين سنة لحدِّ أن هذا التطورَ يكاد يُحيل مَواتاً حقوقَ الإنسان وهذه الحرية اللتيْن هما أساسُ الديمقراطية. كتبتُ "الخصاء الذهني"، في برلين، سنة 1991، وقد استولى فجأة عليَّ التباينُ بين التحرير الذي كثيراً ما تمَّ تمجيدُه آنذاك والقهرِ الناتج عن الاحتقار. كنت وصلتُ إلى برلين وفي رأسي هذه الكلمات لسان جُوست " السعادةُ فكرةٌ جديدةٌ في أروبا". واكتشفتُ في برلين سقوطاً في خيبة بائسة مع وصُول الرأسمالية المنتصرة.
المقالُ القصير المكتوبُ طيلة هذه الإقامة لا يتكلم عن هذا لكنه يسجِّل أن الثقافة هي فكرُ الجسَد الاجتماعي، وأنَّ السلطة الحالية فهمتْ أن التعرُّض لحرية التعبير ليس كافياً وأن عليها أنْ تستحوذَ على حرية التفكير. كان الدِّينُ لفترة طويلة وسيلةً لتوجيه واجتذابِ هذه الحرية، لكنه لم يعُدْ بمقدوره أن يفعل ذلك في عالم لم يعُدْ توجد فيه غيرُ القيم الاقتصادية. من هنا جاء الاختراعُ والتطويرُ الفائقُ السرعة لوسيلة تحكُّم سريٍّ، لا لونَ له، بارع، يمكن أن يقبل به الجميع، ويهْتمُّ فقط، حسبَ ما يقال، بالتَّرفيه والتَّرويح عن النفس، والإخْبار بل والتثقيف.
ملاحظةُ وتحليلُ هذه الوسائل، التى تستعمل شَاشاتٍ تمت الإشارةُ إليها أعلاه، تقدِّم الحجة بسرعة على أن كلمة "الخصَاء" هي هُنا عنفٌ لا مبالغةَ فيه. فالحرمانُ من المعنى لا يكفي السلطةَ الاقتصادية لأنها، ككلِّ السلطات، تريدُ وحدَها السيادة. إذنْ هي تحتاجُ، لا فقط إلى أن تجعلَ الدماغ جاهزاً، بل تريدُ الاستيلاءَ على مجموع المسَالك الداخلية التي تسمحُ، في الجسْم البشري، بالتفكير وبكلِّ ما ينتج عنه من تأمُّل وتمثُّل. هكذا تشتغل لتضعَ رهن الإشارة مراقبةً شاملة للإنساني التي حلَم بها جميعُ الملوك، والبَاباوات والدكتاتوريين ولكنه لم يكُنْ ممكناً، حتى يومنا هذا. وليس من شيء نحتاج إليه سوى الوقت كي نفطنَ إلى أنَّ القسط الأعزَّ فينا، قسط الذهْنيِّ الذي عادة ما نُسميه "النفْس"، هو في الوقت نفسه الأكثر هشاشةً إنْ نحن لمْ نسْهَر بدون توقف على الاستئْناس به حتى لا يستسلمَ لغوايات الصُّورة.
المقالات المجموعة في هذا الكتاب لها جميعُها همُّ تحليل وإدانة غسْل الدماغ الذي تُعمِّمه وسائلُ الاتصال بالغواية لا بالخشُونة. عهدُ الاقتصاد يحوِّل كلَّ شيء، حتى الثقافة، إلى سلعة، وكل واحد منَّا، نحن الذين ينظر إليه كمُستهْلك، له ميلٌ إلى أن يبتلع بسرعة ما يقدَّم إلى عينيْه، بل إلى أن يطلبَه من جديد. مكانٌ مخصَّصٌ هنا للشعب الفلسطيني، المحْروم من حقوقه منذ سبعين سنةً بالرغم منْ جميع القرارات الدولية، لكنَّه مثالٌ كاملٌ للإنْكار العام الذي يسمحُ لعهدٍ عالميِّ للإعلام وللرقابة على المعنى أنْ ينمُو ويتطور.

محمد بنيس الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها ،أربعة أجزاء

2015. طبعة ثالثة من : الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاتها 
أربعة أجزاء
محمد بنيس
الجزء الأول : التقليدية
تتوجه هذه الدراسة نحو قارئها بوصفها أطروحة، أي مقترحاً يسعى إلى إعادة بناء الشعر العربي الحديث، من حيث بنياته وإبدالاتها. لهذا المقترح أسسه النظرية وأدواته المنهجية، بها يحتمي ويرحل. وهو مقترح أيضاً في شرائط اجتماعية وتاريخية تعصف بالقناعات الكسولة، كما تعصف في الآن ذاته بأسئلة الثقافة العربية الحديثة وأجوبتها معاً. والشعر العربي الحديث مركزٌ معلن أم محجوب لهذه العاصفة، من جهات متعددة تقتحم مسكنه الذي انقضى على بنائه قرن أو يزيد. والمقترح ذو همّ معرفي، له النظري الذي يخترقه التحليل النصي. وللنظري سفرٌ متقطع أو متواصل عبر التأملات والتنظيرات القديمة والحديثة، من عربية وغير عربية، مادام الإلغاء يترك المتعاليات الضمنية والصريحة متحكمة في القراأت السائدة التي يتمنع عليها الشعر العربي الحديث، كما يتمنع على كل قراءة يستحوذ عليها تقديس النظريات الحديثة أو التوفيق بينها وبين القديمة، فضلا عن استمرار نسيان أوضاع الحداثة في شعريات ذات سلطة عريقة، كالصينية واليابانية والفارسية والهندية. وهي المفيدة بدورها في إضاءة أسئلة الحداثة الشعرية العربية وعلاقتها بنموذج الحداثة ومآله في أوربا وأمريكا. يضاف إلى النظري حضورُ المحيط الشعري في هذه الدراسة، وهو الممثل له بالمغرب، بعد أن انحصرت الدراسات العامة عن الشعر العربي الحديث في المركز الشعري (مصر، العراق، سوريا، لبنان) مشرقاً ومغرباً، مما أكسب المركز الشعري سلطة تعيين الحقيقة وتوزيع الوظائف. ويظل المحيط الشعري (المغرب وغيره) لا مفكراً فيه. بهذا الحضور يتسع المقترح، وتخط الدائرة انفتاحها الرحيم. يكون حضور المغرب في هذه الدراسة إمضاأً لسؤال شعري لم نواجهه بعد.
□ □ □
تأتلف الدراسة في كتاب من أربعة أجزاء، هذا أولها. وهو يشمل مقدمة نظرية موسعة عن الشعر العربي الحديث والشعرية. يليها القسم الخاص بالتقليدية، وفيه يتسع تناول عناصر وبنيات نصية، من خلال أربعة شعراء هم : محمود سامي البارودي (مصر) وأحمد شوقي (مصر) ومحمد بن إبراهيم (المغرب) ومحمد مهدي الجواهري (العراق). بهذا الجزء الأول تنفتح قراءة الشعر العربي الحديث وأوضاع الحداثة على مغامرة النقد والسؤال. وبه يتهيأ القارئ لمتابعة الرحلة مع الأجزاء الثلاثة الأخرى المستقلة بالرومانسية العربية، والشعر المعاصر، والتفريعات الملازمة لتنظيرات الحداثة ومساءلتها.
العنوان: الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاتها 1. التقليدية
المؤلف : بنيس محمد "
سلسلة : الأعمال
تاريخ النشر: 2015
عدد الصفحات: 280 



2. آلرومانسية العربية
2015. طبعة ثالثة من : الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاتها , أربعة أجزاء

تتوجه هذه الدراسة نحو قارئها بوصفها أطروحة، أي مقترحاً يسعى إلى إعادة بناء الشعر العربي الحديث، من حيث بنياته وإبدالاتها. لهذا المقترح أسسه النظرية وأدواته المنهجية، بها يحتمي ويرحل. وهو مقترح أيضاً في شرائط اجتماعية وتاريخية تعصف بالقناعات الكسولة، كما تعصف في الآن ذاته بأسئلة الثقافة العربية الحديثة وأجوبتها معاً. والشعر العربي الحديث مركزٌ معلن أم محجوب لهذه العاصفة، من جهات متعددة تقتحم مسكنه الذي انقضى على بنائه قرن أو يزيد. والمقترح ذو همّ معرفي، له النظري الذي يخترقه التحليل النصي. وللنظري سفرٌ متقطع أو متواصل عبر التأملات والتنظيرات القديمة والحديثة، من عربية وغير عربية، مادام الإلغاء يترك المتعاليات الضمنية والصريحة متحكمة في القراأت السائدة التي يتمنع عليها الشعر العربي الحديث، كما يتمنع على كل قراءة يستحوذ عليها تقديس النظريات الحديثة أو التوفيق بينها وبين القديمة، فضلا عن استمرار نسيان أوضاع الحداثة في شعريات ذات سلطة عريقة، كالصينية واليابانية والفارسية والهندية. وهي المفيدة بدورها في إضاءة أسئلة الحداثة الشعرية العربية وعلاقتها بنموذج الحداثة ومآله في أوربا وأمريكا. يضاف إلى النظري حضورُ المحيط الشعري في هذه الدراسة، وهو الممثل له بالمغرب، بعد أن انحصرت الدراسات العامة عن الشعر العربي الحديث في المركز الشعري (مصر، العراق، سوريا، لبنان) مشرقاً ومغرباً، مما أكسب المركز الشعري سلطة تعيين الحقيقة وتوزيع الوظائف. ويظل المحيط الشعري (المغرب وغيره) لا مفكراً فيه. بهذا الحضور يتسع المقترح، وتخط الدائرة انفتاحها الرحيم. يكون حضور المغرب في هذه الدراسة إمضاأً لسؤال شعري لم نواجهه بعد.
□ □ □
تتوزع الدراسة على كتاب من أربعة أجزاء، وهذا الجزء الثاني يتوجه لقراءة الرومانسية العربية من خلال قضايا محورية هي : تعيين الحقل الإجرائي، بما هو حقل يستدعي أسئلة مجددة، والحدود بين الشعر والنثر، بعد أن أصبحت علامة علي الممارسة النصية الرومانسية على العموم، ثم البنيات النصية التي خالفت قواعد التقليدية، وأخيراً المتخيل الشعري بتشعباته القديمة والحديثة. ويتعاضد التناول النظري مع الإنصات لأعمال خليل مطران (لبنان) وجبران خليل جبران (لبنان) وأبو القسم الشابي (تونس) وعبد الكريم بن ثابت (المغرب).

العنوان: الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاتها 2. الرومانسية العربية
المؤلف : بنيس محمد "
سلسلة : الأعمال
تاريخ النشر: 2015
عدد الصفحات: 216  



الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاتها 3. الشعر المعاصر
2015. (الطبعة: الرابعة)
تتوجه هذه الدراسة نحو قارئها بوصفها أطروحة، أي مقترحاً يسعى إلى إعادة بناء الشعر العربي الحديث، من حيث بنياته وإبدالاتها. لهذا المقترح أسسه النظرية وأدواته المنهجية، بها يحتمي ويرحل. وهو مقترح أيضاً في شرائط اجتماعية وتاريخية تعصف بالقناعات الكسولة، كما تعصف في الآن ذاته بأسئلة الثقافة العربية الحديثة وأجوبتها معاً. والشعر العربي الحديث مركزٌ معلن أم محجوب لهذه العاصفة، من جهات متعددة تقتحم مسكنه الذي انقضى على بنائه قرن أو يزيد. والمقترح ذو همّ معرفي، له النظري الذي يخترقه التحليل النصي. وللنظري سفرٌ متقطع أو متواصل عبر التأملات والتنظيرات القديمة والحديثة، من عربية وغير عربية، مادام الإلغاء يترك المتعاليات الضمنية والصريحة متحكمة في القراأت السائدة التي يتمنع عليها الشعر العربي الحديث، كما يتمنع على كل قراءة يستحوذ عليها تقديس النظريات الحديثة أو التوفيق بينها وبين القديمة، فضلا عن استمرار نسيان أوضاع الحداثة في شعريات ذات سلطة عريقة، كالصينية واليابانية والفارسية والهندية. وهي المفيدة بدورها في إضاءة أسئلة الحداثة الشعرية العربية وعلاقتها بنموذج الحداثة ومآله في أوربا وأمريكا. يضاف إلى النظري حضورُ المحيط الشعري في هذه الدراسة، وهو الممثل له بالمغرب، بعد أن انحصرت الدراسات العامة عن الشعر العربي الحديث في المركز الشعري (مصر، العراق، سوريا، لبنان) مشرقاً ومغرباً، مما أكسب المركز الشعري سلطة تعيين الحقيقة وتوزيع الوظائف. ويظل المحيط الشعري (المغرب وغيره) لا مفكراً فيه. بهذا الحضور يتسع المقترح، وتخط الدائرة انفتاحها الرحيم. يكون حضور المغرب في هذه الدراسة إمضاأً لسؤال شعري لم نواجهه بعد.
□ □ □
يتألف هذا الكتاب من أربعة أجزاء، أولها خاص ﺑ «التقليدية» والثاني ﺑ«الرومانسية العربية». ويتولى هذا الجزء الثالث مقاربة «الشعر المعاصر» من خلال إستراتيجيته النظرية، حيث تبدو وضيعة المختبر مهيمنة على المتن في ممارسته النظرية والنصية على السواء. وتتركز الدارسة على أعمال بدر شاكر السياب (العراق)، أدونيس (سوريا)، محمود درويش (فلسطين) ومحمد الخمار الكنوني(المغرب). وإذا كانت الأساسيات مثارة ضمن نماذج أوسع، فان اختيار "فضاء الموت" يبتغي مصاحبة الشعر في الزمن الحياة.
المؤلف : بنيس محمد
سلسلة : الأعمال
تاريخ النشر: 2015
عدد الصفحات: 312
الطبعة: الرابعةا  



4.مساءلة الحداثة
2015. طبعة ثالثة من : الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاتها  ,أربعة أجزاء  

تتوجه هذه الدراسة نحو قارئها بوصفها أطروحة، أي مقترحاً يسعى  
إلى إعادة بناء الشعر العربي الحديث، من حيث بنياته وإبدالاتها. لهذا المقترح أسسه النظرية وأدواته المنهجية، بها يحتمي ويرحل. وهو مقترح أيضاً في شرائط اجتماعية وتاريخية تعصف بالقناعات الكسولة، كما تعصف في الآن ذاته بأسئلة الثقافة العربية الحديثة وأجوبتها معاً. والشعر العربي الحديث مركزٌ معلن أم محجوب لهذه العاصفة، من جهات متعددة تقتحم مسكنه الذي انقضى على بنائه قرن أو يزيد. والمقترح ذو همّ معرفي، له النظري الذي يخترقه التحليل النصي. وللنظري سفرٌ متقطع أو متواصل عبر التأملات والتنظيرات القديمة والحديثة، من عربية وغير عربية، مادام الإلغاء يترك المتعاليات الضمنية والصريحة متحكمة في القراأت السائدة التي يتمنع عليها الشعر العربي الحديث، كما يتمنع على كل قراءة يستحوذ عليها تقديس النظريات الحديثة أو التوفيق بينها وبين القديمة، فضلا عن استمرار نسيان أوضاع الحداثة في شعريات ذات سلطة عريقة، كالصينية واليابانية والفارسية والهندية. وهي المفيدة بدورها في إضاءة أسئلة الحداثة الشعرية العربية وعلاقتها بنموذج الحداثة ومآله في أوربا وأمريكا. يضاف إلى النظري حضورُ المحيط الشعري في هذه الدراسة، وهو الممثل له بالمغرب، بعد أن انحصرت الدراسات العامة عن الشعر العربي الحديث في المركز الشعري (مصر، العراق، سوريا، لبنان) مشرقاً ومغرباً، مما أكسب المركز الشعري سلطة تعيين الحقيقة وتوزيع الوظائف. ويظل المحيط الشعري (المغرب وغيره) لا مفكراً فيه. بهذا الحضور يتسع المقترح، وتخط الدائرة انفتاحها الرحيم. يكون حضور المغرب في هذه الدراسة إمضاأً لسؤال شعري لم نواجهه بعد.
□ □ □
عبر مساءلة الحداثة تبلغ الدراسة، في هذا القسم الرابع، لحظتها الثانية، حيث يكون الرحيل من التنظير والوصف والتحليل في الأقسام الثلاثة الأولى إلى التنظير الملازم للمساءلة في القسم الرابع. ولأن المفاهيم والتصورات متعددة، فقد انتقينا محاور أربعة بدت لنا مهيمنة أكثر من غيرها، وهي : المسألة الأجناسية (الفصل الأول) والبنية والإبدال (الفصل الثاني) والخارج النصي وشرائط الإنتاج بين المركز الشعري ومحيطه (الفصل الثالث) ثم مآل الحداثة (الفصل الرابع). إنه الاستمرار في سفر لا ينتهي، يسير نحو الشعرية العربية المفتوحة، وهو يختار المخاطرة ويختبرها، من غير اشتراط الوصول إلى الضفة المضيئة، مسكن الحقيقة الكلية.
العنوان: الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاتها 4. مساءلة الحداثة
المؤلف : بنيس محمد "
سلسلة : الأعمال
تاريخ النشر: 2015
عدد الصفحات: 224
الطبعة: التالثة

ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب محمد بنيس


.صدور الطبعة الثالثة
لكتاب
ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب
دار توبقال ـ الدار البيضاء، فبراير 2014.

صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى سنة 1979 عن دار العودة في بيروت، بعد أن رفضَتْ دارُ الثقافة في الدار البيضاء نشره وترددَتْ دارُ الآداب في بيروت. وإنني لأجدّدُ اليوم شكري للسيد محمدية، مدير دار العودة آنذاك، على مُبادرته بنشر الكتاب ورَغبتهِ في عمَل كدتُ أتخلى عنه. ورغم العناية بإصداره في طبعة مجلدة، أنيقـة، فقد جاءت الطبعة موسومةً ببعض الأخطاء التقنية، التي لم تحُلْ دون الصّدَى الإيجابي الذي وجَده الكتابُ عبر عُموم العالم العربي. ثم قامت كلٌّ من دار التنوير والمركز الثقافي العربي بإصدار طبعة ثانية مشتركة سنة 1985، اعتُمد فيها تصوير الطبعة الأولى.
ولم أقدمْ، بعدها، على إصدار طبعة جديدة. ما كنتُ قمتُ به، بين نهاية الثمانينيات ومفتتح التسعينيات، من نشر عمَلي عن الشعْر العربيّ الحديث، وهو يتبع منهجَ الشعرية النقدية، أبْعدني عن إعادة نشر الكتاب. ثم إنّ لي معه شجوناً، فما نلتُه بسببه في المغرب لم تُشفَ جروحُه حتى الآن. ولربما كان منْ دواعي عدم التفاهم تصريحُ الدراسة برؤية العالم التي تبلورتْ في الشعر المغربيّ المُعاصر من خلال "بنية السقوط والانتظار". كانَ المنهجُ جديداً، مفتوحاً على مفاهيم غير مُتداولة في الثقافة العربية آنذاك، وبتقديري أنّ المفاجأة بهذا التصريح كانت طبيعية. لذلك كنتُ أريد أنْ أنسى هذا الكتابَ وأتوجّه نحو أعمال قادمَة. ولكن المستفيدين منه ظلوا حاضرين، والطلبَ استمرّ مع السنوات، واستمرّ الباحثون عنه يتّصلون أوْ يسألون. وهو ما يدْفعُني لأقول إن الكتابَ ليس في ملْكية مؤلفه، بل في ملْكية قرائه. فهُم الذين قدّروا ما جاء به هذا الكتابُ من جديد في الثقافة العربية وهُم الذين أعطوْه منزلتَه التي عَثر عليها في نفوسهم وأعمالهم. فإليهم أتوجّه بالتحية على ما منحُوني من قدرة على مُواصلة العمل. وها أنا الآن، بعد أكثر من ثلاثين سنة على صدور الطبعة الأولى، أقدمُ على إصْدار طبعة جديدة. بهيبةٍ أعيد اليوم نشرَ الكتاب، لأنّ هناك معطياتٍ عديدةً تغيرتْ كما تغيرتْ قناعاتٌ نظريةٌ ومنهجيّة.
هذه الطبعة الثالثة وفيةٌ للأولى في جميع الخصائص المعرفية. لمْ أدخلْ على منْهجها ولا على نُصوصها أوْ صياغتها أيَّ تعديل أو تغيير. وما قمتُ به يبقَى في حدود تنظيفِ الكتاب منْ أخطائه التقنيّة، واستدراكِ بعض النّواقص المتعلقة أحياناً باضْطراب وقُصور العبَارة أو تكْرار ما لا فَائدة في تكْراره.



محمد بنّيس

كتاب النسيان


كتاب النسيان 

تأليف برنار نويل ، ترجمة محمد بنيس 
2014
تَشـريحُ النّسْيـان

يتناول "كتاب النّسْيان" موضوعاً عالجه الفلاسفةُ، منذ الأزمنة القديمة، مثلما عالجه علمُ النفس في العصر الحديث. ولكن برنار نويل شاعر (أو، بالأخرى، كاتب كما يفضّل التعريف بنفسه)، يقرأ النّسْيان في علاقته بالكتابة. وهنا تكمن استثنائية الكتاب.
إن النّسْيان، كنقيض للتذكّر وبالتالي للذاكرة، علامةٌ على الأدب الحديث، في إبداعيته. وما يفعله النّسْيان في ممارسة الكتابة هو ما يسعى المؤلف إلى النظر إليه من زوايا مختلفة. وقد اتّبع، لأجل ذلك، جمالية كتابة شذرية، لها كثافة الشعر وموسيقية المقطع. إنّها "ملاحظات" (حسب عبارة المؤلف) شرع في كتابتها سنة 1979 ولم تنشر مجموعة إلا في نهاية السنة الماضية، 2012. واعتمادها الكثافة في البناء اللغوي والتنوع في حجم الكلمات، أو الانتقال من لغة نثرية إلى مقاطع من أبيات شعرية، يشيرُ بحد ذاته إلى ما يحقّقه تناولُ موضوع النسيان من تميز في هذا الكتاب. فهو تأليفٌ موسيقى، تنبثق من خلاله تأملاتُ كاتب في كلٍّ من كتابته الشخصية والكتابة الحديثة، ضمن تاريخ الكتابة والتأليف في التقليد الغربي، منذ اليونان حتى العصر الحديث. وقد راعيتُ في الإخراج احترامَ إرادة الكاتب في إبراز هذه الخصائص الكتابية باعتماد شكل نابع من طبيعة الكتابة ذاتها، يأخذ بالاعتبار التصورَ العام لفضاء الصفحة وطريقة ترتيب المقاطع، كما لو كان توزيعاً لتأليف موسيقي.
تتقدم هذه المقاطع بما هي تشريح للنسيان. أستعمل كلمة "تشريح" وأنا أعلم أنّ المؤلف ينظُر إلى النسيان كَكتلة، أي مادة. ومع ذلك فإن الطريقة التي ينتهجها في النظر إلى النسيان، من خلال الجسد، تحوّله إلى عُضو حيّ. ونحن نحسّ، أثناء القراءة، بأنْفاسه التي تخترق جلدنا وتتسرّب إلى صمتنا.
والتشريحُ، الذي يجعلنا نقف على التكوين العُضْويّ للنّسْيان، يلخّص طريقةَ الكاتب. إنهُ يَعْرض النسيان من حيث شكلُه وطبيعتُه. و، مرة تلو المرة، يقرّبنا عبر صُور شعرية من طريقة اشتغاله، أو عندما يصل بينه وبين الذاكرة والكلام والصمت والمتخيل والمعنى والسلطة والزمن والمعارف وفن الاستظهار واختراع الكتابة والمطبعة والمكتبات. هذه طريقة تتجنب منهجَ تلخيص ما كتبه الآخرون عن النسيان أو تحليله بالاستناد إلى تصورات الفلاسفة وعلماء النفس. فهيَ تنقلنا إلى مناطقَ معتمة في الكتابة وفي الحياة والموت لم نتعوّد على اقتحامها، إضافة إلى أنها تتحرّر من مبدإ بداية الكتاب ونهايته. عندها يصبح منَ العبث أن نبحث عن نسق مُغْلق في كتاب لم يصبح كتاباً إلا لأنه يأتي من نسيان مناهج الآخرين وذاكرتهم. هكذا نفهم معنى أن "النّسيان هو مسقط الرأس" بالنسبة للكاتب، إذ لا ميلاد له مع خضوعه لسطوة الذاكرة وهيْمنتها. وبعكس الاعتقاد السائد، لا بد من قول إنه لا شيء يضيع مع النّسيان. فما ننساه يظل موجوداً في مكان مَا من الجسد ثم يعود إلى الظهور في الكتابة لا كما كان ولا إلى ما كان، بل "ككلام لكلّ ما تمّ فُقدانُه"، يعودُ من المكان الأبْعد، المجهول. ولعلّ أسرار النسيان العديدة هي ما يجعل المجهول فيه أكبر من المعلوم، ومن ثم يفرضُ علينا التواضعَ في التعامل معه في كليته، كلما عجزْنا عن معرفة كيف نعبّر عنه في كليته.
كتابة بونار نويل عن النسيان في زمننا، بهذه القوة الفكرية والمقاربة المفتوحة، تدلّنا على الممكن، المفاجئ والحر، في زمن يُصرّ على تشويه النسيان. وإذا كان المؤلف يختم ملاحظاته بالالتفات إلى ما فرضته الدولة، من قبل، بسلطة مُراقبتها في تنظيم الذاكرة وتوجيهيا وفق مصالحها، أو ما تقوم به اليومَ في الغرب من احتلال الفضاء الذهني بقصد"غسل الدماغ"، فإنه لا يتغافل عن دور تشويه النسيان في الحيلولة دون أيِّ تخيلٍ أو إبداعٍ للحاضر والمستقبل.
للنسيان فاعلية في وجود ثقافة حديثة، أساسها التحررُ من استبداد الذاكرة، بما فيها الماضي، وهيمنتها على إنتاج معنى غيْر مسبُوق. وكل مُطّلع على الثقافة العربية القديمة يدرك ما كان لشعرية النسيان من فعل في اختراع الشعر المحدث، وما أوْلتْه الكتابةُ الصوفية من عناية بالنسيان في بناء خطابها. وبمبدإ النسيان نفسه نشأتْ حركة شعرية عربية حديثة تستكشف المجهول ثم المجهول. وأتمنّى أن تكون ترجمة هذا الكتاب إلى العربية مُفيدةً في الاطلاع على الطريقة النقدية التي يتناول بها أحدُ أهمّ كُتّاب زمننا النّسْيانَ، بما هو سمةُ الحداثة الشعرية التي نشترك فيها مع حركات ثقافية غربية، وأن تكون سنداً في إعادة قراءة حركة التحديث في العالم العربي. وفي كلّ هذا اختيارُ عدم التراجع عن تبنّي ما لا ينْتهي، في كتابة لها حريةُ المتخيل وتعدديةُ المعنى.
* محمد بنيس

طريق المداد شعر


طريق المداد شعر برنار نويل ترجمة محمد بنيس
2014
صدر في حُلّةٍ فنية بديعة ديوان : "طريق المداد" لبرنار نويل بترجمة شعرية إلى 
 العربية وقّّعها محمد بنيس بالوفاء المعهود لمغامرة الإبداع المشتركة بين الشاعرين في الكتابة و الترجمة . يتميز هذا الكتاب الجديد بالجمع بين النصين الفرنسي و العربي بشكل متوازٍ طباعياً، كما يحتضن الكتاب عمل الفنان فرانسوا رووان و صياغته
البصرية الخاصة لمستمر إبداعي بين شعر و فن، بين لغةٍ و لغة، بين شاعرٍ و شاعر
مع أصدقاء محمد بنيس

2012  دار توبقال 

عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء،أطلق الشاعر المغربي «محمد بنيس،كتابا  موسوما ب « مع أصدقاء»،ننشر منه في هذه الصفحة ،كلمة التقديم التي تحمل عنوان:«من نفسي إلى نفسي»،و هو عمل أثير بحميميته الأدبية،يعكس نظرة الشاعر محمد بنيس إلى نخبة من أصدقائه. وتأتي الأسماء حسب الترتيب الأبجدي من خلال موضوعات متنوعة. وهي كما وردت في الكتاب: سهيل إدريس، تحديث ثقافة والتزام مثقف. أدونيس : الشعر وما بعده. في صداقة أدونيس. الشرق في شعر لوكينات باتاشاريا. إلى بغدادي صديق اسمه عقيل علي. سركون بولص، أحسن التمرد في الحياة وفي القصيدة. عباس بيضون على طريق قصيدة المغامرة. محمود درويش: في القلق الشعري والوفاء الإنساني. محمود درويش في المقاومة المتعددة. محمود درويش يستضيف «الثقافة الجديدة». لقاءات مع جاك دريدا. إميل حبيبي، السمفونية غير المكتملة. إميل حبيبي، كاتب جاء من حلم شعبه. مقاطع إلى عبد الكبير الخطيبي. التحية لعبد الكبير الخطيبي. محمد الخمار الكنوني أو البحث عن الشعر. عبد الله راجع، سيد الصمت. حداثة محمد زفزاف. إدوارد سعيد، التحية لك. محمد شكري، مجدد أسطورة طنجة. في أربعينية جمال الدين بن الشيخ. رشيد الصباغي على رصيف الوداع- اللاوداع. سيلفيان صمبور، رمز الأدب والحوار. أمجد الطرابلسي، ضوء يقيم في المغرب. طنجة الصداقة. شاهدة على قبر أحمد المجاطي. حسين مروة، رحلة عبر النور. وداعاً ميشونيك. صداقة القصيدة: حوار شعري متبادل مع برنار نويل.

وهكذا، فلْيتحمّلْ بعضُنا بعْضاً، ما دمنا نتحمّلُ في الواقع أنفسَنا؛ ربما عندئذ ستأتي ذات يوم ساعةُ الفرح هيَ الأخرى، حيث سيقول كلُّ واحد:
كان الحكيم المحتضر يصرخ «أيها الأصدقاء، لم يعد هناك أصدقاء !»؛ [و]يصرخ المجنون على قيد الحياة الذي هو أنا «أيها الأعداء، لم يعد هناك أعداء !» نيتشه.



ومضة واحدة تكفي، لكي يسترجعَ الواحدُ منا والآخرُ ما كانت عليه حياتُه. كذلك عثرتُ على نفسي وجهاً لوجْه مع شغَف بالأصدقاء لازمني، منذ الخطوات الأولى خارج البيْت، ثم وأنا على طريق القصيدة. ويظل السفرُ إلى القصيدة الأقوى. فهو يتطلبُ المصاحبةَ والإنصاتَ، مثلما يتطلبُ التعلمَ والتواضعَ والتقاسُم والكرَم. كلماتٌ تستوي في سلسلة من منابع القصيدة. لا شكّ أقول. مرةً أستحضرُ مغربَ ما بعد الاستقلال، ومرة أخرى الوعيَ بالقصيدة. يمكن أن أستفيضَ في وصْف كلٍّ منَ المكان المغربي لهذه الفترة والتربيةِ التي كان يتطلبها مني (آنذاك) التعلّمُ. وأنا، بينهما، أحْرصُ على اللقاء بأصدقاء كان لهم عليَّ أكبرُ الفضل. من بين هؤلاء من كتبتُ عن علاقتي بهم، أو عن أعمالهم أو رمزيتهم، نصوصاً شعرية ونثرية، حسب المناسبة. وأخصُّ هذا الكتاب بنصوص نثرية، مكتوبة في فترات متباعدة، ألحقُ بها حواراً شعرياً، بين برنار نويل وبيني، عن الصداقة. أما غير ذلك من القصائد فموزع على دواوين، أو منشور في غير العربية.
أغلبُ هذه النصوص، التي أجمعها اليوم، جاء على إثر الموت، بما يفجّره من صدمة الفقدان. والباقي كان استجابة لنداء الصداقة. وقد قدمتْ لي لحظةُ الموت مَنْ فقدتُهمْ، من بين الأصدقاء، في صورة مرآة. على قبر كل واحد منهم وضعتُ شاهدة. هي شهادة وشهُود. وهيَ، في آن، أثـرُ اعتراف بما كان بيْـننا. هادئة كنتُ أرى يدي تتقدمُ وتكتب. لا تُلائمني الكلماتُ الجنائزية، لا المراثي. وها صديق في مكان آخر. لا يرحل. فقط يغيّرُ المكانَ الذي تعودْنا على اللقاء فيه لتبنيَ ذكرياتُه وأعمالُه مكاناً يصبح له، هو دون سواه، بينَ أقرباء عاشوا عبر أزمنة من تاريخ البشرية. وهُوَ معهم، في المكان الذي أحافظُ فيه على اللقاء. قبرٌ لكل واحد منهم. وأنا، على حافة القبر، أنظرُ إلى جثتي القادمة.



نصوصٌ لأجل أصدقاء. كلماتٌ عنهم ونداءٌ مفتوح عليهم، منَ العزلة والصمت. يحملُ كل نص (أو أكثر) منها اسماً شخصياً. فالصديق مقترنٌ باسمه ومتفرّدٌ بحياته. لا شبَهَ بين صديق وصديق، ولا شبَهَ بين صديق وبيني. فبقدر ما أقترب من صديق بقدر ما أراعي المسافةَ الفاصلةَ بينه وبيني، هي معنى السرّ الخاصّ، وهي الحرية في الرأي والتعبير والموقف، أو هيَ الحق في الهامش. فالاقترابُ من صديق يعني الإنصاتَ، بما يتطلبه من مجاهدة ومن تسامح، أي البقاء على أهبة حوار لا ينقطع. وإذا كنتُ لا أعرف بدقة كيف أصبح أشخاصٌ أصدقائي، فإن هناكَ من رافقـتُه وجرّبتُهُ لمدة، قبل الوصول إلى لُحمَة الثقة. فالصديق لا نجده بانتظارنا في باب عمارة أو محطّة قطار. نحن نحتاج إلى وقت نتمرّن فيه ونختبر، حتى تنشأ علاقة حقيقية وتنمُو مع شخص مختلف عنّا، ستصبحُ له ذات يوْم صفةُ صديق.
لذلك فإن الأصدقاءَ كوكبة منتقاة، محدودة العَدد. بيننا وبينَها الوفاء، لأنه أسْمَى مظاهر الصداقة. لا بُدّ من الوفاء. فهو وحده الذي يسمح لعلاقتنا بالصديق أن يصبح لها معنى. ومعنى العلاقة هو أن تستمر، وتبقى في حالة الصّحْو، التي تنقل المصاحبة إلى أوصاف استثنائية، حيث يصبح بالإمكان أن تؤديَ إلى أفعال مبدعة، يحضُرُ فيها ما لا نتوقّعُه، أو يتحقّـقُ ما كنّا نعتقدُ أنْ لا سبيلَ إليه.
ولأن كل صديق عالمٌ مستقلٌّ بذاته، فإن الوفاء هو أن نصْـدُقَ في رؤيتنا له وتعاملنا معه، حسب فرديته وتفرده، دون اشتراط تعامل بالمثل، بل دون الحصول على أيّ شيء منه، كيفما كان، حتى نحافظ على استمرار العلاقة معه. لا إرغامَ ولا إخضاع. فالطريقُ التي أسلكها في الحياة هي طريقي أنا، واللقاءُ بالأصدقاء يحدث في المكان الذي يمكن أن نتقاطعَ فيه، أيْ أنّ من حقنا أن نفترقَ عن بعضنا لحين. وحرية الافتراق تضمن لنا بدورها أن نعودَ لنلتقيَ من جديد. إنها حدودُ الممكن وغير الممكن في الصداقة والحياة. والصدقُ هو ما يرسّخُ الصّحْو في مراقبة الحدود. إن كلمة «الصديق» مشتقة من فعل «صَدَق»، الذي هو نفسه أصل اشتقاق كلمة الصدْق. ويكون الصديق أصْفى مَنْ نحبُّ، في السرّ والعلَن، أن نتقاسمَ معه بصدق جزءاً من حياتنا، بدون أن نُنافقَ أوْ نُداهن. من هُـنا نوسّع أيضاً معنى الصديق بالانفتاح في عربيـتنا على اللغات اللاتينية التي تؤلف بين الصداقة والحُب، بل نوسّعُ المعْنى، أبعدَ من ذلك، باستحضار كلمة المحبّة، ذات نفحَة الإبداع العربي. بمعنى أن وفاءنا في الصدق مع الصديق تعبيرٌ عن حبّنا له وميْلنا الدائم إليْه، بصفته جامعاً لأوصاف عُليا تتفرق في أشخاص كان لنا حظ أن نعيشَ معهم أو أن نتعرّفَ عليهم، ويجسد المثالَ الأبعدَ لما نريد أن نكون عليه أو لمن نريد أن نتكامل معه. ففي الوفاء فقط، في استمرار العلاقة مع الصديق والبقاء معه في صَحْو، ونحنُ نراقبُ حدودَ الممكن وغير الممكن، تطأ أقدامُنا عتبة المستحيل.
وعنوانُ «مع أصدقاء» يُعـيّن معْمارَ هذا الكتاب، من حيث هو نصوصٌ ترصد الحياة التي كانتْ لي مع أشخاص، في المغرب أو خارجه، من الجيل السابق عليّ، أو من جيلي. وإصدارُ هذه النصوص مجموعة في كتاب هو، قبل كل شيء، أثرٌ حيٌّ لوُجود الصديق في تكويني وأعمالي، ودعوةٌ إلى ضرورة وجُوده في واقع كلّ واحد منّا.



نصوصٌ عن علاقات استمرت مع أصدقاء، أعتمدُ فيها جانباً عزيزاً من حياتي الشعرية والثقافية والإنسانية. لم أفرّطْ في هذا الأثر الحيّ، رغم أنني تعذبتُ مع أصدقاء أصرّوا على أنْ يتحوّلُوا إلى أعْداء؛ ورغم أنني وجدتُ نفسي، أحياناً، أمام جدار أصمَّ، لا يُؤدي بي إلاّ إلى نُكران كل صوت ينادي على الأصدقاء. ذلك ما كنتُ أستخلصُهُ وأنا، في لحظات من الخيبة، مع أعمال أبي حيان التوحيدي أو أبي الطيب المتنبي أو لسان الدين بن الخطيب، هذه التجاربِ التي تحْفر مجاريها في الثقافة العربية القديمة. فهي تقدمُ الصديق، في أفعال الحياة، كإنسان يميل بطبْعه إلى الافتتان بنفسه، يفضّل مصلحته الشخصية على الوفاء لمبادئ الصداقة. على أنني عثرتُ، لاحقاً، في كتابات نيتـشه على فكرة مفتوحة على فرحٍ بالأصدقاء في الحاضر والمستقبل، لأنها فكرة مجنون يمزق منطق أرسطو، الحكيم المُحتضَر، الذي يصرخُ يائساً منْ وجود أصدقاء، أو احتمال وجُودهم.
أن نتشبث بالأصدقاء هو أنْ نتسامحَ معهم، ونقبَلَ بمخاطر ألا يتفهّمُوا، أحياناً، سلوكاً أو موقفاً يصدر منّا، ونرفضَ، بقوّة اليقيـن، ما يخدش الصورة التي تكونتْ لدَيْنا عنهم. كذلكَ أظلُّ وفياً لمنْ تقاطعتُ معهم، في فترات تقاسمنا فيها، بنُبل وشفافية، جانباً من الحياة يحمل تحت جناحيْه ضوءاً لا يشيخ. بلَى، صرخةُ صدْقٍ ومحبة تشق الجدرانَ وتصلني، الآن وبعد الآن، من أصدقاء.
الحداثة المعطوبة محمد بنيس
دار توبقال الطبعة الثانية 
2012
محمد بنيس يبحث عن كتابة لا تخشى حريتها الشاعر المغربي: الثقافة صياغة لرؤية 
  تسمح للمجتمع والأفراد أن يعثروا على   توازنهم  
مع الذات والعالم
الرباط - قال الشاعر محمد بنيس٬ أمس الثلاثاء بالرباط٬ إنه يتطلع الى تأسيس ثقافة مضادة للاستهلاك والاستسلام٬ من خلال "كتابة لا تخشى حريتها".

وأوضح بنيس في احتفالية بإصداراته الثلاث الأخيرة "مع أصدقاء" و"سبعة طيور" و "الحداثة المعطوبة" (دار توبقال)٬ احتضنها مسرح محمد الخامس٬ أن الثقافة صياغة لرؤية تسمح للمجتمع والأفراد أن يعثروا على توازنهم مع الذات والعالم٬ معتبرا أن بلوغ هذه الثقافة المضادة يتطلب "أن نتعلم العيش في الهامش٬ وأن نقيم علاقة مباشرة مع العالم".

من هذا المنطلق يصنف صاحب "المكان الوثني" نفسه ضمن شريحة المثقفين الذين يعملون ضد الزمن الذي لا يفهمهم. وكواحد من هؤلاء فإن "الحرية وحدها ترشدني الى السير نحو اللانهائي".

وضدا على "ما توهمنا به خطابات لا تدرك معنى الثقافة" -يقول بنيس- فإن "زمننا هو بامتياز زمن الشعر والابداع والفكر".

تحدث الكاتب عبد الجليل ناظم عن طريق محمد بنيس٬ الذي هو "طريق البحث عن الكلمة. السفر الدائم. سفر في سفر"٬ وعن الشعر "كملتقى للطرق والجهات" في سيرة الشاعر بنيس التي أوجزها في رفض الثبات والسكون ومطاردة الحركة٬ واستخلاص السرمدي من العابر.

بنيس -يقول عبد الجليل ناظم- قصة تفاعل مستمر مع الثقافة الكونية٬ إبداعا وترجمة ومعرفة٬ و"عدم اطمئنان للبداهة والاختزال والمطلق".

وفي قراءته لكتاب "مع أصدقاء"٬ يسجل الشاعر محمود عبد الغني أن بنيس أراد أن يكون كاتبا منسيا في حضرة أصدقائه الشعراء والأدباء الذين احتفى بسيرهم من وحي الصداقة بوصفها "سيرة تعلم". يكشف الكتاب عن مسحة من التصوف ولغة استعادية مجروحة -حسب عبد الغني.

أما "الحداثة المعطوبة" فهو ٬ في نظر محمود عبد الغني٬ كتاب خال من التجنيس. مذكرات شاعر شاهد على زمنه٬ يكتب عن الزمن الذي يبطئ في المجيء٬ عن الذاكرة المستلبة والمكتبة المفتقدة.

في "سبعة طيور"٬ ينصت الناقد سمير السالمي لنشيد ذات شعرية جسورة. قصيدة بنيس "ذات عيون". ترى بحس فني وحضاري٬ تعيد ترتيب الأشياء برؤى الشعر٬ تترجم العقل والحس الى لغة مستحيلة للشعر. قصائد مجموعة "سبعة طيور" تتناسل من نسغ الرؤيا -يقول السالمي.
الحداثة المعطوبة محمد بنيس

سبعة طيور محمد بنيس شعر


سبعة طيور محمد بنيس
 شعر 
2011   دار توبقال 
يضم الديوان الشعري «سبعة طيور، لمؤلفه الأديب محمد بنيس، تسعة عناوين كبرى   
 هي: شيء يتكلم أيضا، تمرين العين، تحت سماء الخطوط، تكوين، هناك هنا، جدران، تقريبا، سبعة طيور، لغة الطريق.
وكما هو معهود في المؤلف، فإنه عنى عناية ملحوظة بالاشتغال على بياض الصفحات، حيث جعلها هي الأخرى جزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية، وذلك من خلال توزيع الجمل والكلمات، تارة بشكل عمودي وتارة أخرى بشكل مائل أو أفقي، وفي بعض الحالات، تكون السطوة للبياض، من خلال ترك مساحتين كبيرتين فارغتين في أعلى الصفحة وفي أسفلها.
وضم ظهر الغلاف المقتطف الشعري الآتي:
يغرد في ليلة من ليالي السريرة منتشيا  
ويطير
إلى حيث يتحد الضوء بالذبذبات
هواء يفاجئ
زائره بجناح يردد لمعا
شديد التبدل أبصره من بعيد
يطير
لكي لا أرى   
   غير هذا الذي ليس يشبه أي 
 بعيد.